"أُلقيتْ هذه القصيدة في 11 - 12- 1994، بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة الشاعر جرجي سليم أبي إسبر، ومنح الشاعر شربل بعيني جائزة التقدير الأولى في الأدب المهجري":
نَحنُ ، مَنْ نَحْنُ ، انْتِشَارٌ سرمدي
تَنتهي الدُّنْيا وَفينا تَبْتَدي
تَسْقطُ الأمجادُ إلاّ مجدنا ،
يَزدهي حيناً ، وحيناً يَحتَدي
كَمْ نَبِيٍّ قبلَ تاريخِ السَّما
قدْ خَلَقْناهُ بِحرفٍ أَبجَدي
منذ كانَ البدءُ ، كنّا قبلهُ
في ثريّات الزّمانِ الأَبعدِ
وَإِذا الجُرْحُ عَلى السّيف انْثَنى
أَشْرقتْ في الجُرحِ دُنْيا السؤدَدِ
لا تقل لي قد مضت أيّامُنا ،
رُبَّ يومٍ بعدَنا لَمْ يُولَدِ
إنْ يَكُنْ في الكَوْنِ شيءٌ خالدٌ :
نَحْنُ ، والشّمسُ ، وصوتُ الفرقدِ .
**
يا صَديقي ، هذهِ دَوْحاتُنا ،
دوحة تهدي ، وأُخرى تهتدي
كلُّ جيلٍ ، قبلها ، كان لَها
منبرَ الأمسِ ، ونبراسَ الغَدِ
ههنا ، نحن على راحاتنا ،
ينبني مجدُ النّسور الرُوَّدِ
كلَّما هبَّ علينا صاعقٌ
نتلقّاهُ بصدرٍ أَمردِ
أيّ نجمٍ لـم يدغدغ صوتَهُ
خلف أحلامِ صدانا المرعدِ ؟
أيّ مجدٍ لـم يكنْ منعطفاً
ومحطّاً لِسَنانا الجيّدِ ؟
وإذا اعْلَولى على أفق الصّدى
نتلقّاهُ بعطفٍ أَوحدِ
تارةً بالقلبِ حتّى يَحْتمي
من خطاياهُ ، وطَوراً باليدِ
كَمْ غَدٍ يَغْتَرُّ فِي غُلْوائِهِ ،
وَغَدٍ يَرْتابُ مِنْ غُصْنٍ نَدِي ؟
كلّ عصرٍ حُلْمُهُ مُستَنزَفٌ
يَتَلَوَّى كَالضَّمِيرِ المُقعَدِ
كَمْ مَعْهَدٍ في الأرض لـم ينسجْ على
شرف الرؤيا ، ونبلِ المقصِدِ
كسَّرَ الأقلامَ في دربِ الهوى ،
واقْتَنَى " الكوندونَ " والخُلْقَ الرَّدِي .
**
أنتَ يا جرجي ، إذا الوحيُ انطفَى ،
أَدَبٌ يفدي ، وفِكرٌ يفتدي
يا صديقي ، موعد الدُّنيا هنا ،
يتصبَّاكَ ، فَهلْ مِن مَوْرِدِ ؟
هاتِ من شِعْرِكَ صوتاً داوِياً
فِي انتفاضِ الزّمن المُستعبَدِ
وتَكَسَّرْ فَوقَ أَجْفانِ الهُدى
ثورةَ الشِّعرِ ، ووحيَ المعبَدِ
أَنْتَ ما زلتَ انبعاثاً مشرقاً
لـم ينلْ منه الزَّمانُ المعتدي
علماً للحرفِ ، خفّاقَ المَدى ،
فَوقَ طُغْيانِ الضّلالِ الأسودِ
أَنْتَ ما مُتَّ ، وفوقَ المُنتهى ،
شاعرٌ يبني خُلودَ المَعْهدِ
يا صديقي ، سلمتْ كفّاكَ ، وفي
السنديان المشرئبِّ الأَخلدِ
من كفرحاتا ، سليماً ، عابقاً
في ثنايا العنفوان الأمجدِ
سقط التنينُ في مينائنا ،
وتشظَّى كانفجارِ الجُلمُدِ
قُلْ لقدموسٍ ، وَكَمْ مِنْ ماردٍ
قد صنعناه .. وَكَم مِن مِرْوَدِ
ولِعشتارَ ، إذا السَّيفُ نَبا ،
دمُنا النّارُ ، فَهُبّي واشْهدي
شعرُنا موسوعةٌ مِنْ شُهُبٍ ،
وسوانا للقبورِ الهُمَّدِ
كلّما ضجَّ صباحٌ ومضى ،
في حنايانا صباحٌ يغتدي
وعلى الشَّمسِ حفرنا مقعداً
في زواياه فتونُ العسجدِ
فاسْتظلَّ الغيمُ في شُبّاكنا ،
فوقَ عَيْنَيْهِ بُكاءُ الموقدِ
وإذا الشمسُ على الشعر انحنتْ ،
صرختْ بالأرضِ : يا أرضُ اصعدي
وانقشيهِ لوحةً فضِّيَّةً
"شينُها " الشَّوقُ ، وفي "الباءِ " ابْتَدي
" شربلٌ " غَنَّى ، فَغَنَّى بلبلٌ ،
و" بعيني " دمعةَ الحبِّ اعْبُدِي
شاعرٌ كالأرزِ ، في خلجاتهِ ،
تسكنُ العليا ، ومنه تجتدي
روَّضَ الإعصارَ ، في طلاّتهِ ،
فرحُ الوعدِ ، وحلمُ الموعدِ
إِنْ يَكُنْ تكريمُهُ ، عَنْ خُلُقٍ ،
فَلَهُ في الشِّعرِ خلقُ السَّيِّدِ .
**