شربل بعيني قَلبُه وطن/ نهى السيّد

من هو شربل بعيني:
وُلد شربل بعيني في العاشر من شـهر شباط عام 1951م، في قرية مجدليّا ـ قضاء زغرتا، حيث تنعَّمَ وتمتَّعَ بحياة مليئةٍ بالمحبَّةِ والهدوء والإطمئنان والإيمان. كان إيمانه الدّافع الأساسيّ الّذي جعله ينشد للسَّيِّدة العذراء، وهو في العاشرة من عمره، وكانت تلك الأنشودة أوّل مناجاة شعريّة يلقيها، فشقَّت له طريقاً أدبياً فنيّاً ما زال يسير فيه حتّى اليوم.
تلقّى شربل بعيني دروسـه الإبتدائيّة والثـانويّة في طرابلس، وكان تلميـذاً ناجحـاً، يحــبّ العمل الإجتماعيّ الخيريَّ. وفـي العـام 1968 نشــر أول ديـوان غزلـي "مراهقة"، ولكنّ تدهور الأوضاع في لبنان أشعل فيه نار الغيرة على الوطن، فكتب عـن لبنـان والثّورة، ويوميّات مراسـل أجنبي في الشّرق الأوسط، وكانت قصائدَ سياسيّة اللون وطنية الطّباع، جمعها في عام 1970 في ديوان "قصائد مبعثرة"، يقال، ربَّما، هي الّتي أبعدته عن تحقيق أحلامه في الوطن الأمّ، وأجبرته على السّفر.. فهاجر إلى أستراليا في الحادي والعشرين من كانون الأوّل عام 1971، حيث استقرّ مع عائلته في مدينة سيدني.
مع بعده عن الوطن، ازداد حبّه له وشوقه إليه. ومع كلّ انفجار في أرض لبنان، اشتعل جزء من حقل الألغام المزروع في صدره، حتّى طفح الكيل، وتفجّرت الألغام الشّعريّة، فكتب "مجانين" أوّل ديوانٍ مهجري يُطبعُ في أستراليا سنة 1976. فماذا قال في هذا الدّيوان؟.
الدّيوان:
يحتوي ديوان "مجانين" على سبع وثلاثين قصيدة، كتبها الشاعر باللغة العاميّة. في كل حرف من القصائد نرى حبّه للوطن، ونلمس كرهه للطّائفيّة ولرجال الدين الّذين يستغلّون الطّائفيّـة ويستعملونها من أجل إشعال نار العداوة بين الأبرياء، ومن أجل الحصول على غاياتهم السّياسيّة والشّخصية على حساب الشّعب المسكين. كما يؤكّد لنا شربل بعيني عبر صفحات الديوان أن الحرب في لبنان سياسيّة وليست طائفيّة على الإطلاق، كما يريدنا الزّعماء أن نصدّق.
القصيدة:
"قلبي وطن" قصيدة تحتوي على عشرة مقاطع تقع في خمسَ عشْرَةَ صفحة من القطع الصّغير، سياسيّة اللّون، عامية اللغة، متطاوعة متناغمة، رقيقة وعنيفة، مؤثرة حزينة، صادقة شجاعة، لا تختلف بنوعها أو لونها عن بقيّة القصائد التي يحتويها الديوان.
يرسم لنا شربل بعيني في "قلبي وطن" صورة تعبيريّة عن أفكاره وشعوره، ويدعنا نعيش في قصيدته وكأنّنا نحن أيضاً جزء من لبنان:
ـ1ـ
لَيْش دَخلَك لَيْش يا رَبّي
تركت قلبي يُولَع ويِسْوَدّ
وغيرك، يا ربي، ما سكن قلبي
ولا يوم جرّحتو بْشوك البُغض
ولا فرشت عَ خدودو غْبار الأرض
قلبي وطن.. مزروع بِمْحَبِّه
حْرام، يا ربّي، الوطن ينهَدّ
ـ2ـ
لو كان شي مرّه سْمعِت منّي
كلمِه زْغيرِه تِجرَحَك.. لَعنِه
كنت نتفِه عَ الجرح عضَّيت
وكنت ندرت.. كنت ركعت صلّيت
وصرت مجِّد إسمك وغنّي
كرمال تطرد ناس متّفقين
يقضوا عَ شعب معتّر ومسكين
بيغمّضوا عْيُونو بإسم الدّين
بإسم العروبه.. والدّهب والبنزين
بإسم الدّولار.. وكل شي في مْنافقين
بإسم السّيادِه والحضارَه واليقين
بإسم العدالِه.. بإسم كلّ المَحرومين
بإسم القضِيِّه.. بإسم ناس مْشَرّدين
ومِتِل شي بطّيخ عَ السّكّين
بْيِدْبَحو عَ عتبِة بْوابو
وبيوزّعوا تْيَابو
وبالرّغم من جرحو ومنِ عْذابو
بْيِركع يقلَّك: يا ربّ الكون
إنت هيك حكمَت
ونحنا بحِكمَك راضيين
إنت هيك رسمت
ونحنا العبيد الطّايعين
ومن مين غيرَك قلّنا من مين
مْنِطلُب يا ربّ العون؟!
ـ3ـ
وحق السّما والأرض مغشوشين
ومتل شِي قطعان منقادين
لرجال سمّوهن: رجال الدّين
لأهل السّياسِه الكذّابين النصّابين
دمّنا.. باعوه بِملايين
وعلّبوا لْحُوماتنا متل البَقَر
متل سَمْكِ الطُّون والسّردين
ونحنا اللّي انت جبرتنا نخلق بشَر
عَ قدّ ما منخاف يوم الآخره
مننحني قدّامَك ومنقول:
"معقول عندُن عذرهُن معقول
عْطِيهُن يا ربّ المغفره!!".
ـ4ـ
.. وشو بخبّرك، يا ربّ، عن بيروت
مْدِينةِ الْمرجان والياقوت
سرقوا مْحلاّتا
وهَدْموا بِناياتا
وْصَلّوا وصاموا شهر حتّى تْموتْ
ومستحيل تْموتْ
مْدينة لْ مَسْمِحِلْها تِحكي
وساعة ما بدّا تضحك وتبكي
وترفع إيديها للسّما وتشكي
بِـ شرق.. داعس فوق منخارو طاغوت
بِـ شرق.. صفّى لكلّ سكّانو تابوت
ـ5ـ
بيروت.. هِيّي العرس والعرسان
وهِيّي الطّبل والزّمر
لولا لْياليها الرّقص ما كان
ولا انْهزّ بطن وخصر
وياما الفرح عَ شْطوطها سهران
يْحاكي مْواج البحر
وانْكان شي مرّه القمر ضجران
وحاسس بِنتفِة قهر
بْيِنزل يقطِّف زهر من بستان
غافي عَ حفِّة نهر
ويقعد يْؤَلِّف عن جبل لبنان
أحلى قصايد شعر
ـ6ـ
بيروت.. يا بيروت.. يا مْدينِه
مْزَيّنِه.. ومش ناقصَه زِينِه
تْنَعْشَر سِنِه عم بحلمِك باللّيل
قَولِك أنا مكتوب عَ جبيني
عيش عمري بالهجر والويل
إشرب دموعي وآكُل سْنيني؟!..
ـ7ـ
بيروت.. يا بيروت.. مشتقلِك
وما هَمّنِي لولا تهِدَّمتِي
وما هَمّني لو هجَّروا أهلِكْ
وقدّام عينِك.. يدبحوا طفلِك
الْـ بِيهِمّني تضَلّي عَ إيمانِك
بْأرزِك ، بِصنّينِك ، بلُبنانِك
وِبكُلّ أديانِكْ
وْما تيأَسِي إنتي
إنتي إذا يْئِستي
بِتكون ضربِه قاضْيِه عْلَيْنا
بْتِطفِي أملنا.. ونور عِينَينا.
ـ8ـ
... وشو بْخَبّرِك عن شَبّ إسمو "جْنُوب"
عن شَبّ أسمَر مِتِل طَربين الْحَبَق
عن شَبّ مارد بَعِد مِتلُو ما انْخَلَق
مليون ضربِه بْيِضِرْبُوه
ومَلْيُون جَلْدِه بْيِجِلْدُوه
وِبْيِخلَقوا مِنّو ألِف "مصلوب"!!..
شو بْخَبّرَك يا ربّ يا جَبّار
عَن وحشنِة كُفّارْ
خَتموا عَ تذكِرتو إسم "مغضوب"
وكتبوا عَ صدرو جملتين زغار:
محكوم إنّو يشُوف بِعيونو دَمار
وْيِفْلَح ويزرع كلّ أَرضاتو حروب
حتّى إذا جاع وعطش يا ربّ
ممنوع يشرب غير دمّ ونار
وممنوع يلبس غير ذلّ وعار.
ـ9ـ
دقَّيت عَ بْوابَك سْنين سْنين
وما كنت تسمَعني
وصرت صرِّخ مِتِل صرخات الْجَنين
الْـ جايي غَصِب عَنّو
عَ كون.. صعبِه يِنتِفِع مِنّو
عَ كون.. سُكّانو انْتهوا وجَنّوا
وما عِدت فيك تقول : هَوْدِي ظالمين
وهَوْدِي نَصارى.. وحَدّ مِنْهُن مِسِلمين
وْهَوْدِي يهود مشتّتين مْطَيْشَرين
وْهَودِي تَتَر
هَودِي نَوَر
هَودِي جَماعَه مْوَحّدين
كلُّن يا ربّي ظالمين
كلُّن طُغاة
لا بيؤمنوا بْإنجيل
لا بيؤمنوا بْقُرآن
حَتّى ولا بْتوراة
ولا حاسْبين حساب يوم الدّين.
ـ10ـ
يِئسان من حالي أنا يِئسان
يِئسان حتّى الموت
وانْبَحّ فيّي الصّوت
بْصَرّخ.. بْصَرّخ بين هالطّرشان
بَرْكِي بْيِسمَع صرختي إنسان
بَعدو بْيُؤْمن فيك عن وجدان
تا مِدّ إيدي وإشبِكا بْإيدو
وكلّ شي إِنِت يا ربّ بِتريدو
مِنّفِّذو.. بِـ تضحيِه وإيمان
عَ شرط.. عفْوَك لَو أنا شَارَطْتْ
يْكون يخدُم مَصلحة لُبنان.
المضمون:
يبدأ شربل بعيني قصيدته متسائلاً عمّا يحصل، قائلاً:
ليش دخلَك ليش يا ربّي؟!
وكأنّه يطلب من ربّه أن يعطيه جواباً لسؤاله، فهو يريد أن يعرف لماذا سمح ربّه لقلبه أن يحترق.. فيتكلّم وكأنّ قلبه لبنان، وكأنّ العليّ القدير هو سبب الدمار والمصائب التي حصلت في وطنه.. فيخاطبه دون خوف، مقتنعاً بكلامه ومتمسّكاً به، لأنّه يكتب بضمير خالٍ من الغشّ والخداع. فنراه، بالرّغم من إيمانه بربّه، يسأله عمّا يحصل في لبنان، لكنّه لا يعترض على حكمه، بل يطلب منه العون حتّى يتغلّب على الظّالمين:
إنت هَيك حكمت
ونحنا بحكمك راضيين
....
ومن مين غيرك .. قلّنا مِن مين
منطلُب يا ربّ العون؟!
ثمّ يعود شربل بعيني ليؤكّد لنا أن أسباب الحرب في لبنان سياسيّة، ويظهر غضبه على مَن يسمّون أنفسهم بممثّلي الشّعب.. أولئك الذين خانوا الوطن وثقة الشّعب البريء، ولـم يعملوا إلا لمصلحة أنفسهم الدّنيئة:
.. وحق السّما والأرض مغشوشين
ومتل شي قطعان منقادين
لرجال سمّوهن رجال الدّين
لأهل السّياسِه الكذّابين النّصّابين
دمنا .. باعوه بِمْلايين..
ولكنّ الشاعر واثق أن العدالة عند ربّه، فهو يهدّد الزّعماء بالعقاب الأليم، إن لـم يكن على الأرض ففي السّماء.. وإلى أين المفرّ؟. ويتساءل الشاعر عن الدول العربيّة الباقية، ماذا فعلت لإنقاذ لبنان؟.. ويتّهم الشّرق أنّه أصبح تابوتاً لجميع سكّانه. ثمّ يعود ليتغزّل بلبنان وبعاصمته بيروت:
.. بيروت، هيّي العرس والعرسان
.......
بيروت، يا بيروت يا مْدينِه
مْزيّنِه.. ومش ناقصه زِينِه
ينادي بيروت، وكأنّها لا تزال في أيّام العزّ، إذ أن حبّه للوطن أقوى من كلّ الحروب، ومهما حصل في بيروت، فهو متأكّد من أن قوّة الإيمان ستساعد على بنائها من جديد.
من بعدها ينتقل الشّاعر إلى الجنوب، حيث يتكلّم عنه وكأنّه إنسان من لحم ودم.. تعذّب سنين عديدة، وحُكم عليه أن يعيش مدى الحياة في جحيمٍ. وهنا نلاحظ أنّ الوطنيّة ليست شيئاً جديداً في قلب شربل بعيني، وكرهه للسّياسة ورجالها، ولمعظم الحكّام العرب، إبتدأ قبل حرب لبنان، بل ابتدأ مع قضيّة فلسطين، ونلمس هذا في قوله:
دقَّيت عَ بوابَك سنين سنين
وما كنت تسمعني
رغم شعوره بالأسى، وبأنّ صراخه لن يسمع، وألمه لن يُداوى، فهو لـم يقطع الأمل من استجابة ربّه لدعائه، فيضع كل آماله فيه، عالماً أن لبنان لن ينقذه إلاّ قوّة من الرّب، فالخلاص لن يكون إلاّ بمعجزة منه، وبكلّ الصّفاء الروحي يتوجّـه إليـه، يسأله أن يخدم مصلحة لبنان، وأن ينقذه من عذابه الأليم ، عندئذٍ:
.. كلّ شِي إنت يا ربّ بتريدو
منّفذو بِـ تضحيّه وإيمان
عَ شرط .. عَفوك لَو أنا شارطْتْ
يكون يخدم مصلحة لبنان .
شعره:
شعر شربل بعيني شعرٌ تصويريٌّ، صادق وجميل، فعندما يكتب يضع جزءاً من نفسه بين الأحرف.. وعندما يتذكّر لبنان يكتب بإخلاص نادرٍ، فهو لـم ينسَ للحظة واحدة انتماءَه له، كما لـم ينكر فضلَ ذلك الوطن الجميل عليه. كان يتكلّم وكأنّه هو لبنان، فيجعل من لبنان إنساناً يشعر بالألـم والعطش والجوع والتّعب والفرح، ويتساءل دائماً: كيف بإمكان المسؤولين عن الحروب، أن ينظروا إلى لبنان، وطن السّلام والمحبّة، وهو يتألّـم، دون أن يساهموا بإنقاذه وإعادة الطّمأنينة إلى ربوعه؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع :
ـ بعيني ، شربل ـ مجانين ، الطبعة الثالثة ، سيدني 1993
ـ طبّاع ، مي ـ شربل بعيني قصيدة غنّتها القصائد ، دار عصام حداد ، لبنان 1994
ـ المر ، كامل ـ مشوار مع شربل بعيني ، دار الثّقافة ، سيدني 1988
ـ الباشا ، محمّد زهير ـ شربل بعيني ملاّح يبحث عن اللـه ، ط 3 ، لبنان 1993
**