دفاتر الأيّام" أنهى حلقاته لعام 2000 بلقاء الشاعر شربل بعيني/ ماري ميسي

قبيل أنتهاء عام 2000 بيومين فقط، استضاف برنامج (دفاتر الأيام) الذي تبثّه إذاعة SBS الشاعر شربل بعيني، ونظراً لأهميّة اللقاء، وللمعلومات التاريخيّة التي وردت فيه، رأينا أن من الأفضل إطلاع قرّاء مجلّة (أميرة) على أهم ما جاء فيه. والجدير بالذكر أن رئيسة البرنامج العربي السيّدة ماجدة عبّود كانت قد اتصلت بالشاعر بعيني لإجراء المقابلة، وعندما أعلمها بأن السيّدة ماري ميسي قد اتصلت به قبل أسابيع لإجراء مقابلة مماثلة معه، قالت: نحن فريق عمل واحد.. ولا يهمنا سوى نجاح البرنامج العربي.. سآخذ منك موعداً بنفسي كي تجري معك المقابلة زميلتي ماري ميسي.
ونحن في مجلّة (ميرة)لا يسعنا إلاّ أن ننوّه بموقف السيدة ماجدة عبّود المشرّف، الذي يدل على اهتمامها المضني من أجل إنجاح البرنامج العربي وعمل باقي المذيعات والمذيعين. وإليكم أهم ما جاء في اللقاء الذي أجرته السيّدة ماري ميسي:
"ضيفنا اليوم شاعر مهجري حصل على جوائز عديدة، منها: جائزة الأرز الأدبية عام 1985، من قنصل لبنان العام في سيدني الدكتور جان ألفا. جائزة تقدير الكلمة عام 1986، من الأستاذ سامي مظلوم في مالبورن، على جائزة جبران العالميّة عام 1987، من رابطة إحياء التراث العربي، جائزة الشاعر جورج جرداق عام 1992، وأخيراً على جائزة "أمير الأدباء اللبنانيين في عالـم الإنتشار اللبناني لعام 2000"، من المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية في العالـم ـ فرع أميركا الشماليّة، الذي يرأسه الأديب جوزيف حايك.
أصدر 34 كتاباً، موزعة بين الأدب والشعر والتعليم. ألّف مسرحيات عديدة، كما كتبت عنه كتب عديدة. أصدر صحيفة صوت الأرز عام 1973، وفي عام 1995 مجلة ليلى. نتصفّح اليوم دفاتر أيّام الشاعر شربل بعيني:
ـ شربل.. أهلا وسهلا فيك
أهلا وسهلا فيك ست ماري.
ـ للحقيقة.. لـم أكن أعرف كيف أكتب مقدمة عنك
انت خبيرة بأدبي.. فلقد كنت من أكثر الذين قابلوني في هذا المهجر.
ـ تسلم.. تسلم. أولاً أقول لك مبروك على الجائزة الأخيرة التي هي أمير الأدباء في عالـم الإنتشار. التي منحك إيّاها المجلس القاري للجامعة الثقافيّة في العالـم ـ فرع أميركا
أشكرك.. وأشكر الجامعة اللبنانيّة الثقافيّة في العالـم، فهذه هي المرة الأولى التي تلتفت بها للأدب المهجري، ولو لـم يكن الرئيس القاري للجامعة أديباً كبيراً إسمه جوزيف حايك.. لا أعتقد أن أحداً سيفكّر بأدبنا المهجري. إنها إلتفاتة عظيمة منه.. أشكره عليها.
ـ اليوم، سوف لن نركّز على شعرك، بل على شخصية شربل بعيني الإنسان، الذي لا يمكننا أن نفرّقه عن الشاعر. فلنبدأ إذن من طفولتك.. من نشأتك.. أنت من لبنان.. ولكن من أين؟
أنا من مجدليا ـ شمال لبنان، بلدة صغيرة، ولكنها أصبحت اليوم كبيرة.
ـ كبيرة بأهلها
شكراً.. إنها تفصل بين مدينتي زغرتا وطرابلس، وتربط أقضية زغرتا، الكورة والضنيّة. إذ أنها تملك مساحة شاسعة من الأراضي. لهذا أطلقوا عليها إسم "مجدليا"، أي المجد لها. وهي البلدة الوحيدة التي أنشئت بها بلديتان. بلدية لمجدليّا، وبلديّة استحدثت مؤخراً لفوّار مجدليّا. أنا من تلك البلدة، هناك ولدت.
ـ ماذا تتذكر من طفولتك؟
هناك أشياء كثيرة أتذكرها، أولها، محبّة أبناء القرية لبعضهم البعض، حتى أنهم في مهجرهم هذا لـم يتخلّوا عن حب بعضهم البعض، وهذا ما جعلني أحب الآخرين. فلقد تربّينا على المحبة.. كما أنني لا أنسى كيف كان أهالي القرية يحبّون الإستماع إلي وأنا ألقي أشعاري.. من يوم كنت في التاسعة من عمري، خاصة عندما يزور شخص العذراء مريم بيوت القرية في شهر أيار، فكنت أقف لاستقباله على باب بيتي بخطاب طفولي، وكان الناس ينصتون إليّ. من أيام طفولتي وأنا أحب أن ألقي الشعر، صحيح أن صوتي عالٍ، ولكن علو الصوت كان وما زال يساعدني على توصيل كلمتي
ـ هل أمضيت فترة شبابك في مجدليا فقط؟
لا.. لقد ذهبت إلى طرابلس، هناك اشتركت بأمسيات أدبيّة عديدة. ولكنها كانت متعبة بالنسبة لي.. خاصة وقد صدر لي في ذلك الوقت كتاب (قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة)، وعندما تتكلمين عن الثورة عام 1970، فهذا يعني وجع الرأس.
ـ هذه أشياء أعرفها من مقابلاتي السابقة معك.. ولكن بعض المستمعين يجهلون الظرف الذي كان السبب في هجرتك إلى أستراليا.. إنه أحد كتبك على ما أعتقد.
نعم.. إنه الكتاب الذي ذكرت سابقاً.. أضيفي إلى ذلك كتاب عن الثورة الفلسطينيّة إسمه "يوميّات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط" نشر في معظم الصحف والمجلاّت اللبنانية والعربيّة، كالنهار والأنوار والبيرق والدبور والهدف للمرحوم غسّان كنفاني. وبسبب هذه القصائد دعيت إلى أمسية شعرية في طرابلس.. فتخلّل الأمسية إطلاق نار.
ـ هل كنت تدعو للثورة؟
أجل.. ولكثرة حماس الجمهور راح يطلق النار.. فاختبأ محسوبك تحت الطاولة.
ـ شاطر بالحكي بس
وهل تريدينني أن أحارب؟.. لقد افتكرتهم يطلقون النار عليّ.. فاختبأت تحت الطاولة. والمقطع الشعري الذي ألهب القاعة يقول:
لـم يقتلوا طفلاً إخواني
أعرفهم حتماً أعرفهم
فالرحمة هم
والرأفة هم
وليسمع كلّ إنسانِ
لولا عدالةُ ثورتهم
لفقدت بالعدل إيماني
هنا بدأ الرصاص يلعلع، فأين تريدينني أن أصبح؟
ـ تحت الطاولة
ويظهر أن المكتب الثاني اللبناني في ذلك الوقت لـم يعجبه ما حصل في تلك الأمسية، أولاً، أنا من منطقة معيّنة، وعليّ أن ألزم حدودي.. وثانياً، الثورة التي ينطوي عليها كلامي غير مسموح بها.
فاعتدوا علي أمام سينما "الريفولي" وقالوا: سد بوزك.. وكان برفقتي أخي جوزاف، وشاب يعيش الآن في كندا، كان أول من أخبرني بفوزي بإمارة الأدب، إسمه أنطوان بعيني. فركضا نحوي وأسعفاني بعض الشيء، خاصة وأن الدم كان يغطي وجهي. وأثناء الليل جاءنا خوري، هو الآن في كندا أيضاً، وطلب من والدتي، رحمها اللـه، أن أختفي عن الأنظار مدة من الزمن. فاختفيت في بيت أحد أقربائي في بلدة حصرون الشمالية، ولـم يدر أحد بوجودي هناك. ومن هناك أجريت الإتصالات بين لبنان وأستراليا، وكان المجيء إليها سهلاً عكس هذه الأيام، فسهّل لي السفر الرئيس رينيه معوّض، رحمه اللـه، كوني كنت أحمل رقماً إحتياطيّاً في الجيش.. بعد أن كنت خضعت للتدريب العسكري في صف الفلسفة.
ـ بإمكاني أن أقول أن هذا الكتاب قد غيّر مجرى حياتك.. فلو بقيت في لبنان، هل كنت ستصبح شربل بعيني الذي نعرفه الآن؟
كنت سأصبح أشهر من اليوم.. فمن الكتاب الثالث والضجّات الإعلاميّة تلاحقني. فكتاب مراهقة أحدث ضجة كبرى، ولـم تبق صحيفة ولـم تكتب عنه. وأذكر أن أحد مستشاري رئيس الجمهورية، كان يكتب تحت إسم مستعار "توني سابا"، خصّ الكتاب بصفحتين في مجلته، وطالبني بأن أقرأ أشعاري في مسرح فاروق فقط. فتصوري كم كانت كتبي، وانا في السابعة عشرة من عمري، تأخذ اهتماماً أدبياً.
ـ ولكن ألا تعتقد أن الهجرة قد أثّرت على كتبك.. كون الشاعر يتأثر ببيئته ومجتمعه؟
ولكن مساحة النشر عندي كانت ستكون أوسع لو بقيت في العالـم العربي، خاصّة وأنني بدأت النشر وأنا في السادسة عشرة من عمري. فالشاعر في وطنه ينطلق أكثر.. فلقد قال لي الشاعر المرحوم نزار قبّاني قبيل وفاته: ضيعانك تضل بأستراليا.
ـ بإمكانك أن تكتب في أستراليا وتنشر في الخارج.
المسألة ليست كما تكونين هناك.. فالشاعر مثل الفنان، ولكن الفنان الذي يأتي من الخارج تسبقه شهرنه، فالتلفزيون والإذاعات والمجلات الفنيّة كلها تحت أمره، أما نحن فنعيش غربة ضيّقة مهما فعلنا. اليوم أصبح عندنا (الإنترنت)، أما في السابق فكنّا لانملك شيئاً. عندما وصلت إلى أستراليا، كانت عمليّة النشر تتملّكني. لقد نشرت في لبنان، ونالت كتبي الكثير من التقدير، فأصبح مرض النشر يؤرق عيني، فنشرت في المهجر كتاباً إسمه مجانين.
ـ أعتقد أنّك أول من طبع كتاباً في أستراليا.
ولقد أتعبتني طباعته كثيراً، إذ أنهم طبعوا الصفحات بالمقلوب.. وذلك لندرة المطابع العربيّة.. فتصوّري حالة الصراخ التي اجتاحت عمّال المطبعة عندما أخبرتهم أن الكتاب طبع بالمقلوب، وعليهم أن يباشروا بطباعته من جديد. لقد تحملوا الخسارة ولـم أدفع سنتاً واحداً.
ـ كان هذا أول كتاب يطبع في أستراليا..
أجل.. وهو مسجّل الآن بالمكتبة الوطنيّة في كانبرا
ـ ما هو العمل الأول الذي قمت به في أستراليا؟
حمّال.. عتّال.. أول ما وصلت إلى أستراليا اشتغلت حمّالاً!! تصوّري أن إصبعي الخنصر كان انقطع.. لأنني أجبرت على وضع منجل صغير في خنصري كي أقطع بها الحبال، ومع الوقت التهب إصبعي، فأمر أحد الأطباء بقطعه.. فقلت له: يقطع رقبتك.. أتعتقد أن قطع عضو من جسمي مسألة سهلة؟.. فبدأت بمداواته بنبتة إسمها (حي العالـم).. ذات أوراق خضراء وعريضة.. فخففت الإلتهاب وأبقت إصبعي في يدي.. ها هو أترينه؟
ـ إني أراه.. ما زال في مكانه. شربل.. نحن نعرف أنك تعمل كمربٍ في مدرسة سيّدة لبنان.
قبل أن ألتحق بمدرسة سيّدة لبنان، كنت قد تركت العمل في الفبارك، بعد أن قلت لنفسي: أنا جئت إلى هذه الغربة ولـم يكن في جيبي أكثر من 40 دولاراً، إذا خسرتها لن أخسر شيئاً، فلماذا لا أؤسس شركة ما أعيش منها بشرف، فأسست شركة صوت الأرز لبيع الكسيتات الغنائية العربيّة، وتعتبر أو الشركة من نوعها في ذلك الوقت، فنجحت بشكل مذهل. وفي يوم من الأيّام تعرّفت براهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، فقالت لي الأخت كونستانس الباشا: العمل التجاري لا يليق بك، أنت حقلك التعليـم، تعال علّم معنا.. كان هذا سنة 1980، فقلت لها: دعيني أفكّر.. وبعد تفكير عميق وجدت أن من الأنسب الإلتحاق بمهنة التعليـم، وهكذا كان. فالسعادة ليست دائماً بجمع المال.
ـ كما أن الكتب لا تطعمك خبزاً
لقد وزعت كتبي مجاناً.. أنا لـم أقـم ندوة واحدة لبيع كتبي.
ـ المعروف أنك نشرت أكثر من 34 كتاباً، ومعظم هذه الكتب ترجم إلى الإنكليزية.
ولا تنسي أن كل كتاب طبع عدّة مرّات.. فيكون مجموع ما أصدرت من كتب 63 كتاباً.
ـ هناك من ينتقد غزارة الكتب عندك.. فماذا تقول؟
جميعهم عندهم غزارة شعرية.. كلهم يملكون القصائد العديدة، ولكنهم لا يملكون الجرأة على دفع تكاليف النشر.
ـ أبسبب كلفة الكتاب؟
أجل.. أنا، والحمد للـه، كان عندي الجرأة على النشر، وكنت أقول إن على الشاعر أن يترك أعمالاً تخلّده.. فضحيّت بكثير من المال.. فإذا اعتبرنا أن كلفة كل كتاب تساوي ثلاثة آلاف دولار، ضرب 63 إصداراً، لكان بإمكاني أن أشتري بناية في المدينة، على حد تعبير الدكتور عصام حداد.
ـ أنت لا تبيع كتبك.. أما هكذا؟
أكيد لا أبيعها، فأنا أؤمن بأن أدب الشاعر يجب ألاّ يباع.. وأن يكون غائيّاً لا غوغائيّاً.
**