مشوار مع شربل بعيني من خلال كتاب كامل المر/ ميرنا الشّعّار

ابتدأ كامل المرّ بتعريف أنواع النّقد، وكيف يُنقدُ العملُ الأدبـي، وقسّـم كتابه إلى عدَّة أبواب، فكان الباب الثـاني عن شربل بعيني وعـن أولى قصائده، واختار مـن كتـاب "مراهقة" ما شبّهه بالتّعابير المراهقة، أي غير النّاضجة، ولكنّه، أي الكتاب، واقعيّ مصوّر لحالات المراهقين وحبهم للهو والحريّة. وقد كانت لغة شربل بعيني سلسةً وقريبةً إلى السّـمع بسبب اللغـة العاميّة المستحدثة فيها. ومن الملاحظ أنّ معظم كتب شربل هي في اللغة العاميّة، ربما لافتخاره باللّهجة اللبنانيّة ورغبته في انتشارها أكثر.
تكلّم عن الحبّ والزّواج، فقال يحاكي حبيبته الباكية:
شو مزّعلِك.. إنتي القَمَر
إنتي السّحر فِيكي انسَحَر
ليلى.. إذا بكيتي بَعِد
عم هدّدِك قيس انْتَحَر
وفي الزّواج يصوّر رفض والد حبيبته له، ويصف مشاعره بدقّة متناهيةٍ:
بَيِّك طردني وما قِبِل فِيّي
كُون صهرو وطبطب عْلَيّي
سألت السَّبَبْ.. تاري السّبَبْ إنّي
مْعَتَّر فَقير.. وْشُو هَالِخْطِيِّه
قُولِي لْبَيِّكْ يعتذِر مِنّي
وْقُولِي بْحِبُّو كْتير يا بَيّي..
وقبل أن أنتقل إلى شعره الفصيح أودّ أن أذكر بعض الملاحظات حول شعر شربل بعيني العاميّ: فكما ذُكر في المحاضرة عن تقييم الشّعر، فإنّي علمت بأنّ الشّعر العاميّ يقع في الدّرجة الثانية من الشّعر. إذ أن الشعر العاميّ متحيّز إلى بلد واحد وجماعة وطبقة معيّنة من النّاس. ليس كلّ من قرأَ شعراً فهمه، ولكن كلّ من يقرأ أشعار شربل بعيني العاميّة يفهمها ـ هذا إذا كان القارىء لبنانياً ـ ذلك لأنّها لغة الشّعب الدّارجة.. ومع ذلك، فعندما قرأت المقطع الشّعري المذكور أعلاه عن طرد والد حبيبته له، لـم أعرف بادىء ذي بدء ماذا يقصد بكلمة "بيك" ، إذ، وربما الحق على الطباعة، لـم توضع شدّة على الياء، لأتمكّن من معرفة ماذا يقصد بـ "بيك"، هل هو "البيه ـ الباشا أو الوالد". ذلك أنّ معظم المناطق اللبنانيّة تستعمل فقط "بابا ـ أبي" وبعض القرى "بيّي" أي والدي. فما المقصود من هذا؟.. أهو حديث منغّم أم شعر محليّ؟.. أتصوّر أنّ اللغة الفصحى، كانت وما زالت، لغةَ الجميع رسمياً، لوضوحها وجمالها ووحدة معانيها وطرق لفظها وصعوبة استعمالها، والأصعب من هذا كلّه الشّعر القديم، بأوزانه وقواعده. لذلكَ يلجأ الشّعراء، في أيّامنا هذه، إلى الأسهل والأسرع والكلمة الخفيفة، بعيداً عن القوافي والأوزان، التي أصبحت كالعملة النادرة في هذا الزّمن.
لنتوقّف قليلاً عند شعر شربل بعيني الفصيح وهو يصف وجدان الشّاعر في خراب ودمار الوطن:
... وكالمطر
يتساقطُ الخطر
في بلادٍ ضائعه
عاريةٍ وجائعه
وكلُّ مَن فيها كَفَر
أو هَجَر
تحزنه هجرة النّاس عن أوطانهم في زمن الخطر، حيث الجوع انتشر.. ولأنّ الناس لـم تعد تعي ما تفعل، فقد كفرت بالـله وبالأديان، وهربت إلى بلد ترتاح فيه من ظلم الزّعماء والحكّام. بعدها يقول بعفويّة وصدق:
ألخرابُ يزحف نحو المدينَه
(شبّهه بزحف الجيوش القاهرة نحو مدينة آمنة)
يخترق جدارَ الصّمتِ والسّكينَه
(أي أنّهم كانوا يعيشون في أمان وهدوء إلى أن صُدموا بالإجتياح)
والطّيورُ الشّاردَه
في الليالي الباردَه
ترتِّلُ التّراتيلَ الْحَزينَه
(ألطيور الشاردة تنبىء بالشّؤم ودمار البلد).. اللغة فصيحة، ولكن يغلب عليها طابع السّهولة، كالأسلوب العامي. مثلاً: "عارية وجائعة.. وكلّ من فيها كفر أو هجر.. عيون المجد إن تدمع.. فدمعها يروي ما نزرع.. ولكنّا فقأناها.. " .
شعره يمتاز بعدم تقيّده بأيّ نظام شعريٍّ أو كتابي، فهو بالنّهاية تعابير صادقة ثوريّة وقصيرة جدّاً، ذات خيال واسع يجرّدنا من الواقع، مع أنّه يكتب عن الواقع. فنتخيّل الأطيار تطير وهي ترتّل التراتيل الحزينة فوق النّار والدّخان وصراخ الأولاد.. كأنّها صورة رسّام برع في تحديد أدقّ التّفاصيل، ولكنّه نسيَ الألوان فجاءت باهتة.
في الباب الثالث من كتابه، يتناول كامل المر "يوميّات مراسل أجنبي في الشّرق الأوسط" ويصفها بالنثر الرفيع القريب من الشّعر. وفيها يحكي شربل بعيني مأساة اللاجئيـن الفلسطينييـن وتشردهم في المخيّمات وما شابه.
"يوميّات مراسل أجنبي" هي في نظري شعرٌ جميـل صادق، يحكي بكلّ البلاغة ليصف حالة البشر في الخِيَم أثناء القصف بلوحات شعريّة هي من أجمل شعره:
.. والخيمةُ ترتَجِفُ
ويَئِنّ في الخيمةِ بَشَرُ .
وهل هناك تعبير أعمق من هذا.. لوصف الأنين وأطفال الحروب وأهاليهم، أولئك الّذين كانت لهم أوطان وبيوت من حجر ، تحوّلوا إلى لاجئين يعيشون في بيوت من القهر. فيحض شربل بعيني الحكّام العرب على استخدام ضمائرهم والتنازل عن أطماعهم، وكأنّه يذكّرنا بقول نزار قبّاني:
ما دخل اليهود في حدودنا
ولكن تسرّبوا كالنّمل من عيوننا
شربل قال:
يا رئيسَ كلِّ دَوْلَه
حَمَلَت إسمَ العرب
كيف ترضى بالمَذَلَّه
كيف ترضى أن يقولوا:
داستِ النّمْلَةُ تَلَّه .
النّملَةُ هي اليهود الذين كانوا أقلّية، واستطاعوا بقوّتهم وعزمهم أن يدوسوا القوّةَ العربيّة التي تكبرهم بأضعاف.
شـعره فيه الكثيـر من العِبَر، ولكنّـه لا يتّخذ نهجاً واحداً، بل يتأرجحُ ما بين العاميّ والفصيح وبين الشّعر الموزون.
فما الّذي يريد أن يوصلَه إلى النّاس: الشّعر الحديث الأقرب إلى الأذن والقلب أم الشعر القديم!؟..
إلى مَن يتحدّث ، ومن هو جمهوره في هذه الحالة؟.. ما هم طالما أننا نقتبس من كل هذا معانيه الحلوة، التي تحكي بالنيابة عنّا وعن مشاعرنا، وكأنّه في شعره قد طرق صلب موضوع المشاكل العربيّة وبالأخصّ الحرب.. وَمَن ذا الّذي سمح بهذه النّكسات وبوطء الغريب أراضينا؟!.. طبعاً، فالخيانة لا تكون إلاّ من أفراد الشّعب نفسـه وخاصّـة الحكّام.
وحكى شربل بعيني أيضاً عن أطفال الحجارة والانتقام والأسلحة، وقد يتّسع الكلام عنهم إلى صفحات، لذلك سأختصر وانتقل الى الباب الرابع، حيث يتكلّم كامل المر عن ديوان "مجانين" الذي يحتوي على صرخة ألـم وتعجّب من حركات الجنون في لبنان والطّائفيّة والدّمار. وقد لجأ شربل هنا إلى استعمال اللغة العاميّة، لأنّها لغة قلبه، فهو يحكي بدافع من عاطفته نحو وطنه الذي يحدث فيه ما يحدث من فظائع، فيثور غير عابىء باللغة، وينطلق فارداً جناحيْ الشّعر، حاملاً أرقى المشاعر وأنبلها، ليسافر بها إلى أذهان العرب في كلّ مكان وفي لبنان بالتّحديد:
.. لكن كرامة طفل أو ختيار
عم يِلعَبُوا فِيهُن مِتِل طَابِه
وْكِرمال يبقى الْجَار حدّ الجَار
بَدّي بيوت الشّعر فَجِّرْها
وْخَلّص من الويلات أحبابي
وها هـو يثـور على الطّائفيّـة، ويقول في مقطع كلّه جنون:
.. يا يسوع الْمَصْلوب
ويا رَسول المؤمنين
ما عرِفْتُوا ربَّيْتُوا شْعُوب
عْرِفتوا رِبَّيْتُوا مْجَانين
أبيات ثائرة على الأديان التي اتُّخِذَت كحجّة للإقتتال، فباسمها قتلوا البنات والصبيان، لذلك ليس العتب على الأنبياء، إنما العتب على المجرمين الذين اقتحموا ديارنا باسم الدين، والدّين بريء منهم ومن أمثالهم. إذن، فالأنبياء لـم يربّوا مجانين.. طالَما أنّ القابعين تحت الرّمل، أولئك الّذين يطبّقون وصاياهم، ينتظرون السّاعة المناسبة، لينفضوا الرّمل، ويجتاحوا الظّلم، وينشروا السّلام كما كانت الحال أيّام الأنبياء وخلفائهم.
في الباب الخامس، تطالعنا قصائد شربل التي تدعو للعودة إلى الوطن، بالرّغم من أنّه هو شخصيّاً لـم يرجع إلى وطنه بعد، فما زال هنا، في أستراليا، ينتج شعراً يدعونا فيه للرجوع إلى الوطن.
في الباب السّادس، نرى أبياتاً لشربل تصف أحوال الجالية في أستراليا ومعاناة التعايش في بلد الرّكض نحو الدّولار، والتّفكير في جمعه، بغض النّظر عن تشرّد الأطفال وتحطّمِ العادات والتّقاليد.. فينفجر شربل في قصيدته "جاليتي" بركاناً يغلي من انعدام الحياة الأسريّة، الّتي كانت تحيط بالزوجين والأولاد، وتفعم البيت بجوّ المحبّة والدفء والإستقرار، وبذلك نتجنّب الجريمة والفساد بين شباب الجيل الصّاعد.. فيستخدم شربل اللغة الفصحى هذه المرّة، لأنّه يحكي عن قضيّة حسّاسة تهم النّاس بمختلف مستوياتهم وثقافاتهم:
رديئة جاليتي ومشتّتة
فلا الأب يحبّ أبناءه
ولا الأم تحنو وترضع
ألكلّ يركض وراء اللاشيء
وكلّ شيء يمكن تجسيده بالتّكاتف والتّضامن.
وقد تطرَّقَ في هذا المقطع بالذّات إلى صورة مصغّرة عن العالـم العربي، ألا وهو التّشتّت، فنرى النّاس يتبعون مصالحهم ناسين المصلحة العامّة، سواء في أستراليا أو في أي بلد عربيّ.
كلمات الشّاعر جاءت متضامنة بمعانيها ووصفها، مسترسلة كينبوع الماء. فهو يعتبر الماديّات "لا شيء"، وأهم شيء هو التّعاضد والتّعاون. وهذا ما يؤكّد لنا أن بعض شعره يحتوي على الحكمة والمثاليّة، كمثل قولـه فـي "قصائد ريفيّة":
.. فلكلّ شيءٍ ظاهر
حجاب يستتر وراءه
ولكلّ جبل شامخ وادٍ
يكفي لاحتضانه في اليوم الأخير.
أمّا في الباب السّابع والأخير، فيجيبنا شربل بعيني بقصيدته "أللـه ونقطة زيت" عن تساؤلات تتماوج في بالنا، وأكبر سؤال هو وجود اللـه والإيمان.. يجيب ليقول بأنّ المؤمنين لا تهمّهم خزعبلات البشر، ولا يحتاجون لوسيط كي يتأكّدوا من وجود اللـه ومعجزاته، وهو ينادي الناس بأن يرتفعوا عن انضمامهم إلى بشرٍ لا يعرفون أكثر ممّا هم يعرفون، ومعلوماتهم لا تتعدّى الغشّ والخداع لكسب المال والشّهرة، ولو كان الثّمن اختلاق البدع باسم اللـه البريء منهم ومن أعمالهم. يقول شربل:
.. غْفرلِي دخلَك لَولا بْقُولْ
مَسطُول وْأَكْبَرْ مَسْطولْ
كِلْمِنْ بِيآمِن يا ربّ
مِن نقطة زيت وقنديل
وخْرافات وْدقّ طْبُولْ..
نتلمّس من أشعار شربل بعيني، العاميّة والفصحى، ابتعاداً عن الأوزان الشّعريّة أو التّفعيلات. لأنّه يؤمن بحريّة المبدأ والقول وطرق كتابة الشّعر، فلـم يتبع طريقاً واحداً، بل تنوّعت كتاباته فأصبحت تناسب أهواء كلّ النّاس، فالّذي يستهويه الشّعر الفصيح فإنّه يجد مطلبه في بعض كتب شربل بعيني المفعمة بحب الوطن واللـه والجمال. أمّا الّذي يحبّ الشّعر العاميّ فإنّه يهبط على سهلٍ واسعٍ مليءٍ بثمار الشّعر العاميّ القادم من الجبـل والقرى اللبنانيّة الأصيلة.
وهنا لا يسعني إلاّ أن أذكر أن شربل بعيني قد تطرّق إلى شعر المديح، فمدح أحمد شوقي مديحاً يليق بأمير الشّعراء، قال:
... وكلّ القلوبِ تعوفُ الصّدورَ
لتسكُنَ يوماً حِمَى منزلِكْ
فَكيف ارتضَيْتَ بِلَقْبِ أَميرٍ
وَشعبُكَ يهتِفُ "عاشَ الملِكْ" .
شعره بمديـح شوقي يتضمّـن صوراً بليغـةً أغنت القصيدة، فأتـت الكلمات أحجاراً كريـمةً مرصّعـةً عـلى تـاج "شوقي":
... وحسبكَ شوقي بأنّك أنتَ
غزلتَ لها المجدَ في مِغْزَلِكْ
فمهما كَبُرْنا بروضِ الْقَوافي
نظلّ نحِنُّ إلى مشتَلِك
وتبقى الحروفُ تجيءُ إليكَ
لتَنْهَلَ ماءَها من مَنْهَلِكْ
وأخيراً، فإنّ شربل بعيني شخصيّة وطنيّة موهوبة، طبعت آثارها بكلّ ثقةٍ وجدارة على أرصفة الشّعرِ المعطاء، وسواء أكانت لغته عاميّة أو فصحى، فإنّها تأتي دائماً واضحة ومتناسقة ومباشرة إلى الفكرة دون أيّ مقدّمات.. وما غزارة إنتاجه سوى دليل على خياله الفيّاض وأفقه الواسع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألمراجع :
ـ ألمر كامل ـ مشوار مع شربل بعيني، دار الثّقافة، سيدني 1988
ـ بعيني شربل ـ قصائد ريفيّة، دار عصام حدّاد، لبنان 1993
**