أنتم أمه وأبوه وذووه/ د. عصام حداد

يا أحلى من المواعيد وصحوة الخير في النفس الطهور، ما زال في حيّنا ظلّك، على الزنبقات يتساحب في الضحوات وعلى ضوء القمر. ها قد شرّعت لك القلوب، لتفلت لك من الحناجر كل الأهازيج على الرّحاب.
يا ضيعانك يا شربل بعيني، تخلّي لبنانك مسرحاً للخفافيش والوطاويط، أنت الذي ربيت هنا على رأرأة الضوء، ورقرقة الشلاّل، ومسار العبير.
أين تغنّيك بأرزات هذه الرواسي الطالعة إلى السماء، أنت يا أطيب من نغمة المنجيرة، وأحرّ من النبض، وأعزّ من المجد وفصاحة العنادل؟
بروحي تلك الأنامل المشيقة تسلخ من شرايينك الحروف، وتحبكها حكايات سنيّة، وترانيم لاهبة تُشَدُّ إلى القلوب والعيون.
لقد فرشت لك الأهداب: يا هلا بطلعة ذلك الوجه الرضيّ والضحكة الصخّابة كقصفة بريق وشهقة رحيق. ها إنّي أطرح الصّوت على العباهر وأطباق الحبق في الحيّ لتلتمّ في مهرجان ملاقاة الحبيب.
أضحى الوطن فعلاً ماضياً ناقصاً، إلَّـم يلتحم به شطره الآخر ليتمّ.
إنّه أليف كلّ همّ بلا أمّ، لأنكم أنتم يا أهله الطيبين، أمّه وأبوه وحموه وفوه وذووه الأحبّاء الأصفياء الأوفياء.
أما جبلتموه بالعرق، بالدمّ، بالدموع؟ أما حملتموه رايات على مفارق الأمـم؟ لينزلق من بين أصابعكم كالزئبق والماء والهواء؟
الأمهات على الموانىء في شواطىء لبنان اللاهفة إليكم، يلوّحن بالمناديل للعائد من الغربة المالحة، يكسرن على العتبة الرغيف، ويدلقن النبيذ المعتّق، وينثرن الحندقوق والياسمين، ويلبسن العيد.
ماذا تعمل أيّها الحبيب في بلادٍ تسوس الهررة والكلاب أكثر من الإنسان؟
كفاك تزهق العمر على الرماد مع أنفاث لهاثات المدنيّة المتوحّشة والتكنولوجيا العمياء.
إن لباس الجنفيص هنا أنعم من الحرير المستعار هناك. وإن المساميك العارية هنا أندى من الناطحات هناك.
حتّى مَ البحر يجوع ويجوع؟ ونحن نأكل المرارة على الشموع بعيون مطفأة ويباس هذه السّحن في غمرة الضباب؟
متى يجفّ سيل الدم عن البحر، وتزهر العظام النخرة تحت السنديانات العتاق، ويجبر خاطر هذا الوطن المسكين الكسيح؟
لا لـن تعيش هنا كالضبّ، يا من عمّرت لك حيث عشت، حدّ وطنك، وطناً آخر، ونسجت من رموشك وعروقك راية وراية، فمعك هنا زند آخر ينبت معك الربيع والدفء والخير.
يا هلا بك تفقأ حصرمةً في عين الدهر المشتّ.. فها إنّ قلبي المشلَّع المنعصر عليك، على التلّة الغارقة بالضوء والعبير، قرب ذلك المعبد العتيق، ها إنه يشفى من شماتة العوازل وتمزّق الوداع.
لا لن ينشرنّ أحد، بعد اليوم، على صنوبر بيروت، إفلاسي منك يا شربل، بل أنادي من ينادي معي، صبايا بيبلوس ليهيّئن لعشتروت وأدونيس، التاج والصولجان.
**